في غزة يُضحّى بالأطفال- عيد أضحى مُلطّخ بالدماء والعجز

مع إطلالة عيد الأضحى المبارك، وفي بقاع شتى من العالم الإسلامي المترامي الأطراف، تتصاعد وتيرة الحملات المنظمة في ربوع تركيا بهدف ذبح الأضاحي وإرسال المعونات العاجلة إلى المناطق المنكوبة. انبريتُ بالولوج إلى موقع إلكتروني تابع لإحدى الجمعيات الخيرية المرموقة، ساعيًا لتقديم أضحية متواضعة إلى أهلنا الصامدين في قطاع غزة المحاصر. وكما هو حالي، تدفق آلاف المتبرعين الكرام على هذه الجمعيات المباركة، متوخين نفس المقصد النبيل.
إلا أن عبارة مقتضبة قد استرعت انتباهنا جميعًا، وأثارت فينا لواعج الأسى والحسرة: "مع بالغ الأسف، يتعذر علينا ذبح الأضاحي داخل قطاع غزة. وعليه، فإننا نقوم بذبح الأضاحي وتغليفها بطريقة آمنة، ثم نبذل قصارى جهدنا لإيصالها إلى داخل القطاع المنكوب".
لقد كانت تلك الجملة بمثابة خنجر مسموم غرس في صميم القلب. يا له من عجز مدقع! ليس فحسب أننا قاصرون عن إنهاء أتون الحرب الطاحنة هناك، بل حتى عن التوصل إلى هدنة مؤقتة تتيح لنا إغاثة أهلنا، بل إننا بلغنا من الضعف والهوان مبلغًا يحول دون إدخال أبسط المساعدات الإنسانية الضرورية!
في غزة الجريحة، لم يعد الحديث عن ذبح الأضاحي ضربًا من الخيال، بل ضربًا من العبث؛ إذ يعاني الأطفال الأبرياء من نقص حاد في الحليب الضروري لنموهم، ولا يجدون رغيف الخبز ليسدوا به رمقهم، فكيف لنا أن نتجرأ على إرسال لحوم الأضاحي إليهم، في ظل هذا العوز المدقع؟!
وقد روى لنا طبيب تركي نبيل، عاد قبل بضعة أشهر من غزة المحاصرة، قائلًا بمرارة: "لم أُبصر أي حيوان سائب يجوب الشوارع المهجورة، وقد أثار هذا المشهد في نفسي بالغ الدهشة والاستغراب...". ويعزى ذلك إلى أن الحيوانات الضالة قد لقيت حتفها جراء القصف العشوائي والتدمير الشامل، وأما المواشي من بقر وغنم وماعز، فقد استُهلكت بالكامل، ولم يتبقَّ منها أثر يذكر.
في غزة الصابرة، لعلّ قصة النبي إسماعيل -عليه السلام- تتجسد من جديد، فالناس هناك باتوا مضطرين لتقديم فلذات أكبادهم قرابين على مذبح الظلم والعدوان. هذه هي العبارة المؤلمة الوحيدة التي ما انفكت تتردد في جنبات ذهني المثقل بالهموم والأحزان في هذا العيد: "في غزة يُضحّى بالأطفال الأبرياء...".
قبل أيام معدودات، سُئلت في بث مباشر عن وجهة نظري حيال الهجوم الإسرائيلي الغاشم على مركز لتوزيع المساعدات الإنسانية، فتأملت مليًا: ماذا عساي أن أقول في هذا الموقف العصيب؟ ثم أدركت بمرارة أنني قد استنفدت كافة الكلمات الممكنة تحت هذه السماء.
لم يعد للتحليلات الجيوسياسية المعمقة أي معنى يذكر. ولا جدوى تُرتجى من شرح الجهود الدبلوماسية المضنية المبذولة في هذا الشأن.
لقد تجلى لنا بالعيان أن الحديث لساعات طوال عن مدى إجرام إسرائيل وشراستها لا يسهم في وقف نزيف الدم المتواصل ولا يضع حدًا للحرب الشعواء. وأصبحنا ندرك جميعًا أن الأمم المتحدة قد تجردت من فاعليتها المعهودة وأضحت عاجزة عن القيام بدورها المنوط بها. ولم يعد أحد يجهل أن المجازر البشعة تُرتكب بأسلحة وذخائر أميركية الصنع، وتُنفّذ تحت حماية الجيش الأميركي.
وبات كل مسلم غيور في الشارع العربي والإسلامي يعي تمام الوعي أن الدول الإسلامية المنقسمة عاجزة عن الاتحاد ورص الصفوف، وغير قادرة على منع قتل إخوانهم المستضعفين. حتى دول أوروبا باتت تعترف جهارًا نهارًا بأنها لا تحرك ساكنًا إزاء هذه الجرائم النكراء ضد الإنسانية التي تُرتكب على مرأى ومسمع من العالم أجمع.
فماذا عسانا أن نقول بعد هذا؟ ما هي الكلمات التي لم تُقَل بعد في رثاء غزة وأهلها؟
يبدو أننا قد استهلكنا كل ما في جعبتنا من كلمات معبرة، ولم يعد في وسعنا النطق بغير الصمت المطبق. لعلّ هذا ما جعلنا نعجز اليوم عن مشاهدة أخبار غزة الدامية. نخجل من أنفسنا أشد الخجل. صرنا كنعامة تدفن رأسها في الرمال هربًا من الواقع المرير، نُعرض بوجوهنا شطر غزة حتى لا نرى هول الفاجعة، وننشغل بأمور تافهة أخرى، ونتحدث عن أشياء أخرى لا تمت للواقع بصلة.
أعلم يقينًا أن هذا الشعور بالإحجام والنفور إنما هو وليد العجز المطلق. فبسبب ذلك العجز القاتل، لا نستطيع أن نشاهد موت أولئك الأطفال الأبرياء وهم يتساقطون كأوراق الخريف.. لكنّ صورةً واحدة مؤثرة، أو مقطعَ فيديو صغيرًا يدمي القلب، أو رمزًا بسيطًا لفلسطين الحبيبة، سرعان ما تعيد إلينا تلك الحقيقة المرة التي فررنا منها: "في غزة يُضحّى بالأطفال...".
ضمائرنا الحية لا تتركنا وشأننا، وشعورنا العميق بغياب العدل لا يدعنا نذوق طعم النوم، والعجز يطبق على حناجرنا ويُقعدنا عن فعل أي شيء.. لا تستطيع أن تضمّ ابنك الحبيب إلى صدرك بحنان، ولا أن تنظر في وجه والديك المسنين بعين مطمئنة، ولا أن تجلس في بيتك الوادع بطمأنينة وسكينة.. غزة قد خلخلت أعماقنا وكياننا، وأيقظتنا من سباتنا العميق، وردّتنا إلى ذواتنا الإنسانية.
جميع مشاعرنا الإنسانية النبيلة التي انتفضت في وجه الظلم والاستبداد، لم تعد تهدأ أبدًا، ولم تعد تتركنا نرتاح أو نستكين.. ومهما حاولنا الفرار من هذا الواقع الأليم، فإن تلك المشاعر الإنسانية المتأججة، وتلك القيم السامية، سرعان ما تُعيدنا إلى أنفسنا مرة أخرى.
لقد بعثت غزة إنسانيتنا من مرقدها، وشحذت فينا روح التمرد على الظلم، وجددت إيماننا الراسخ بقيم العدالة والحرية، وأجّجت غضبنا المقدس في وجه الطغاة. وهذا السيل الجارف من الغضب العارم يبحث الآن عن مَسرب ينفجر من خلاله، وسيأتي يوم قريب لا محالة ينفجر فيه سيلًا هادرًا يجرف في طريقه حصار كل ظالم واحتلاله البغيض وقيوده الغليظة.
لا أعلم على وجه اليقين إن كنا سنشهد ذلك اليوم المشرق، لكنني أُوْمن إيمانًا قاطعًا بأن عاصفة الحرية العاتية تلك ستنفجر ذات يوم قريب، في أوروبا، وفي أميركا، وفي الشرق الأوسط المضطرب، وفي آسيا المترامية الأطراف.. ستُعلن ثورة الضمير العالمي في كل مكان في وجه الظلم والاستبداد، وهذا أمر أنا على يقين تام منه.
وأولئك الظالمون المتجبرون الذين لطّخوا جباههم بدماء أطفال غزة الأبرياء، لن يجدوا أمام ثورة الضمير العالمية هذه غصنًا واحدًا واهيًا يتشبثون به هربًا من مصيرهم المحتوم.